الأربعاء، 24 يناير 2018

بحث : من كتاب ديار بني سعد بن بكر بن هوازن التي نشأ فيها الرسول صلى الله عليه وسلم

بحث : من كتاب ديار بني سعد بن بكر بن هوازن التي نشأ فيها الرسول صلى الله عليه وسلم

  إعداد : أ.د/ عبدالله بن مصلح الثمالي 

المبحث الثاني : الأدلة على أنه لم يكن لبني سعد بن بكر ديار أو سراة جنوب الطائف :
             المقصود من هذا المبحث هو إثبات أنه في القرون الأولى لم يكن لبني سعد بن بكر أي موضع في السروات جنوب الطائف ، سواء في المواضع التي 
يحل فيها بنو سعد في الوقت الحاضر أو في مواضع غيرها ، ثم إثبات أن هذهالسروات والجبال جنوب الطائف ـ التي يحلها بنو سعد الآن ـ  لم تكن 
لبني سعد بن بكر زمن البعثة ، وخلال الثلاثة القرون الأولى من الإسلام على أقلتقدير ، بل كانت لقبائل أخرى غيرهم ، وإذ لم يكن لهم سراة ،
 ولم تكن هذهالمواضع والسروات التي يحلونها الآن لهم في ذلك الوقت ، فكيف يقال إنالرسول صلى الله عليه وسلم كان يسترضع هنا ؟
          وسيتم تقسيم هذا المبحث إلى ثلاثة مطالب ، يذكر المطلب الأول من هم سكان السراة جنوب الطائف في زمن البعثة والقرون الأولى
 من الهجرة ، ويذكرالمطلب الثاني مواضع بعينها يسكنها بنو سعد الآن لم تكن قديماً لبني سعد بن بكر بل كانت لقبائل غيرهم ،

 أما المطلب الثالث فقد خُصص لإلقاء نظرة سريعة وموجزة لمعرفة متى ظهرت قبيلة بني سعد المعروفة الآن في السراة جنوبالطائف ؟ 

المطلب الأول : تحديد سكان السروات جنوب الطائف في ذلك الوقت .
المطلب الثاني : تحديد مواضع بعينها يسكنها بنو سعد الآن لم تكن قديماً لبني سعد بن بكر.
المطلب الثالث : ظهور بني سعد القبيلة المعروفة الآن في السراة جنوبالطائف  .
وبيان هذه المطالب على النحو الآتي :


المطلب الأول : تحديد سكان السروات جنوب الطائف في ذلك الوقت :
             جميع النصوص التي ذكرت السروات جنوب الطائف القريب وسكانها ، حصرتهم في خمس قبائل ، وفي خمس سروات ـ بالإضافة إلى سراة هذيل غربالطائف ـ  وهذه السروات جنوب الطائف هي : ( سراة ثقيف ، وسراة عدوان ، وسراة فهم ، وسراة بني شبابة ، وسراة بني علي ) ثم تأتي سروات بجيلةودوس وغامد ... ولم يرد أي نص يذكر أي سراة جنوب الطائف لبني سعد بن بكرخلال هذه القرون الأولى للإسلام ، ومن هذه النصوص :
1/ نقل ياقوت والبكري عن الأصمعي عند حديثه عن السروات  : " سراة ثقيف ،ثم سراة فهم وعدوان ، ثم سراة الأزد " () فأشار إلى أن سراة فهم وعدوان تقعمباشرة بعد سراة ثقيف جنوباً ، وهي المواضع التي يحلها بنو سعد الآن .
2/ عند ذكر الهمداني للسروات جنوب الطائف قال مرتباً لها من الجنوب للشمال: " ثم سراة بجيلة ... ثم سراة بني شبابه وعدوان ، وغورهم الليث ومركوبفيلملم ، ونجدهم فيه عدوان مما يصلى مُطار ، ثم سراة الطائف " () . فذكر أنالسروات التي تقع بين الطائف وبجيلة ( وهم بنو مالك الآن ) هي : سراة بنيشبابة وسراة عدوان . وذكر أن غور بني شبابة وعدوان أي : تهامة مما يليسراتهم ، هو : الليث ومركوب ثم يلملم ، والليث هو غور سراة بني سعد الآن ،مما يدل على أن هذه السراة التي هم فيها الآن لم تكن لبني سعد بن بكر سابقاً ،بل هي لبني شبابة وعدوان ، وأيضاً لفهم كما جاء في النص السابق ، وكماسيأتي في النص اللاحق .
3/ وذكر الهمداني السروات جنوب الطائف في نص آخر فقال بعد أن ذكرالطائف : " ومن يماني الطائف واد يقال له جفن لثقيف ، وهو بين الطائف وبينمعدن البرام ... ثم يتلو معدن البرام ومُطار صاعداً إلى اليمن ، سراة بني عليوفهم ثم سراة بجيلة والأزد " () . فلم يشر إلى وجود سراة لبني سعد بن بكر ما بين المعدن وبجيلة ، أي في الديار التي فيها بنو سعد الآن ، بل تكرر ذكر القبائل السابقة ، وهم هنا : ( بنو فهم ، وبنو علي ) . 
   وهذه النقول السابقة عن سكان السروات جنوب مدينة الطائف ـ وغيرهاكثير مما لم أذكره ـ  تفيد أمرين رئيسين في موضوعنا ، وهما :
الأمر الأول : أنه لا يوجد جنوب الطائف وبدلالة هذه النصوص سراة لبني سعدبن بكر ، وذلك خلال ذلك الزمن الذي أُلّفت فيه هذه الكتب ، ونقلت فيه هذه الأقوال، اعتماداً على مشاهدات أصحابها  ورحلاتهم ، أو بالنقل عن الثقة . وهذا يدلعلى أن بني سعد بن بكر لم يكونوا هناك خلال هذا الزمن ، ولو كانوا هناك لوجد من يشير لوجودهم ، ولو من خلال نص واحدٍ من بين عشرات النصوصالتي ذكرت غيرهم ، فقبيلة بني سعد بن بكر قبيلة كبيرة ومشهورة ، غير منكورة أو مجهولة ، ولو كانوا هنالك ذلك الزمن لوجدنا ذكرهم يتكرر في أكثر من موضعمن هذه الديار .

الأمر الثاني : أن هذه النصوص ونحوها تفيد أن هناك اتفاقاً على أن سكان السراة ـ التي يسكنها بنو سعد الآن ـ وما هو قريب منها جنوباً ، هم : ( عدوان ، وفهم ، وبنو شبابة ، وبنو علي ) ولا أعرف نصاً ذكر في هذه المواضع في ذلك الزمن غير هذه القبائل () مما يدل على أن ديار بني سعد بن بكر التي نشأ فيهاالرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن هذه الديار .


المطلب الثاني : تحديد مواضع بعينها يسكنها بنو سعد الآن لم تكنقديماً لبني سعد بن بكر :

           ذكرت في الفقرة السابقة من هم سكان السروات جنوب الطائف القريب ،وفي حدود سراة بني سعد الآن أو قريب منها ، حيث انحصروا في أربع قبائلليس منهم بنو سعد بن بكر ، وهنا سأورد جملة من النصوص على مواضع معينة من ديار بني سعد الآن ، ويتضح منها أن هذه المواضع ليست لبني سعدبن بكر في زمن البعثة ، أو القرون الأولى من الهجرة ، بل هي لقبيلة أخرى منإحدى القبائل التي سبق ذكرها هنا ، ومن هذه النصوص :
أولاً : أول ديار بني سعد الآن من جهة الطائف هي ( المعادن ) وما حولها ، وهذهالديار لم تكن لبني سعد بن بكر قديماً ، فقد أورد الهمداني نصاً ذكر فيه أنمعدن البُرام لثقيف وقريش ، قال : " ومن يماني الطائف واد يقال له جفن لثقيف () ، وهو بين الطائف وبين معدن البُرام . ويسكن معدن البرام قريش وثقيف " ().
          ومعدن البُرام هو ما يعرف الآن بالمعدن أو المعادن ، وفيه جبل رباح الشهير(الجبل الأخضر ) ، وهو معدن حجر البرم المشهور ( الحجر الصابوني ) ، وذكرهالحربي بقوله : " معدن البرام ، وهي مدينة كبيرة ، بها منبر ، وهو الموضع الذيتعمل فيه البرام ، تنحت من جبل عظيم " () .
           وذكر الهمداني أن سكان المعدن ثقيف وقريش ، ووجود ثقيف مقبول ؛لأنهم موجودون بجواره في لية وجفن ، أما وجود قريش ، فالغالب أنه حصل في زمن متأخر ؛ لأن هذه الديار لم تكن لهم ، بل الغالب أن قريشاً وثقيفاً جاءوا لاستغلال المعدن ، وليسوا أهله في الأصل بل أهله عدوان ، حيث وردت نصوصأخرى تذكر أنه من ديار عدوان ، فمن ذلك ما أورده ياقوت في معجم البلدان قال : " والطائف من سراة بني ثقيف وهو أدنى السروات إلى مكة ، ومعدن البرم هو السراة الثانية ، وهو في بلاد عدوان " () .وذكر ابن حزم أن المعدن لعدوان وبني عمومتهم قبيلة فهم ، فقال : " وأرض عدوان وفهم على مقطع البرام بقرب مكة ..."() . 
        فهذه النصوص تفيد أن المعادن لم تكن لبني سعد بن بكر في ذلك الوقت ، سواء أقلنا هي لعدوان خاصة ـ وهو الراجح ـ أم قلنا إنها لهم وللقبائل الأخرىالمذكورة في النصوص المتقدمة ، فثقيف جيرانهم في الديار من الغرب ، وفهمأبناء عمومتهم وشركاؤهم وجيرانهم في الديار من الجنوب ، أما قريش فالغالبأنهم ـ إن وجدوا هناك ـ فقد قدموا لاستغلال المعدن .
ثانياً : ذكر الهمداني في صفة جزيرة العرب أن الموضع ( بقران ) كان لعدوان ،قال : " أرض عدوان من السراة :  يصاع ، والسوار ، وبطن قوت ، والنجار ،وبقران . 
قال ذو الأصبع :
              جلبنا الخيل من بقران قبّا    ..     تجوب الأرض فجاً بعد فج " () . 
      فهذا النص يفيد أن الموضع ( بقران ) المعروف في ديار بني سعد الآن ، والمجاور للمعادن جنوباً ، لم يكن لبني سعد بن بكر سابقاً ، بل هو لقبيلة عدوان، وتقدم أن لعدوان أيضاً (المعادن ) وهي بجوار بقران مباشرة .
ثالثاً : أرض عدوان كبيرة وواسعة ، تقدم منها ( المعادن ) وبقران ) وقد تقدم موضع (مطارفي نص الهمداني : " ثم يتلو معدن البرام ومُطار صاعداً إلىاليمن ، سراة بني علي وفهم ثم سراة بجيلة والأزد " () ، فقرن ( مطار ) مع معدنالبرام ، وهذا يجعلها قريبة من ديار عدوان ، وإن كان الهمداني لم يحدد أهلها ، ونحوه ما جاء في كتاب الأماكن : " بضم الميم ، مُطار : قرية من قرى الطائف بينها وبين تبالة ليلتان قاله الكندي() ، ونقل في لسان العرب عن أبي حنيفة :ومُطار ومَطار : موضع ... قال أبو حنيفةمطار واد فيما بين السراة وبينالطائف " () . 
            وقد جعلها ياقوت لبني نصر بن معاوية ، قال : " أجارد : واد ينحدر منالسراة على قرية مطار لبني نصر " ()فجعل الوادي ( أجارد ) والقرية ( مطارلبني نصر . وهذا بخلاف ما جاء عند المقدسي من قوله : " ...  ثم في مطار وبهامعدن البرام " () فجعل معدن البرام في مطار ، والمعدن لعدوان كما تقدم .
          كما ذكر البلدانيون دياراً أخرى لعدوان ، وقد تقدم في نص الهمدانيالسابق منها : ( يصاع ، السوار ، بطن قوت ، النجار ) ونص بعض شعرائهمعلى غيرها ، كقول ذي الأصبع () :

إن داري ب بمرهبٍ ) ( فبصعرٍ )   ...    ( فمعورٍ ) ( فوخدة ) ( فالمرار )
ولنا منزلبرقبة ) لايُســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــمع فيه تهاذي الأخبار
                                                ثم ( بالفرع ) قد نزلنا قبيلاً      ...     دار صدقٍ قليلةِ الأقذار
                                          ذات حرزٍ وعزةٍ ونجاةٍ      ...     وامتـــنـاعٍ من جحفل جرار

ومن شعر ذي الأصبع أيضاً : 
عذير الحي من عدوان      ...        كانوا حية الأرضِ
بغى بعضٌ على بعضٍ      ...         فلم يبقوا على بعضِ
          لهم كانوا ( أعالي الأرض )     ...    ( فالسرِّان ) (فالعرض)

     وللأسف فإن أغلب هذه المواضع لم يعد معروفاً الآن ، إلا أن منها ( صُعر ) قال عنها البلادي : " هضبة بطرف السر الشمالي من جلدان " () . ومنها ( السرِّان ) تثنية (سرولم يحددها أحد ، لكن يوجد موضع اسمه ( السر ) معروفالآن جنوب الطائف ، ووجوده في بلاد عدوان ظاهر جداً ، فالمعادن وبقران وصعرتحيط به ، والقول بأنه كان لعدوان لا يستغرب ، بل هو الأقرب .
           وورد في هذه الأبيات أن لعدوان سراة مرتفعة ، كقوله : ( الفرع ) وقوله : (أعالي الأرضوالديار التي يطلق عليها الفرع الآن كثيرة ، وخصوصاً في ديار ربيع وبني زائد المجاورة لبقران ، ومنها ( فرعة ربيع ) وفراع ربيع ) و ( فرعة بني زائد ) مما يؤيد أن عدوان كانت هناك ، وأن لها مشاركة أيضاً في أجزاء من السراة بعد بقران ، وأورد أبو علي الهَجَري في كتابه  التعليقات والنوادر ، أن من بطون عدوان (بني زائد ، وبني عُلقة) ، قال : " في قبائل عدوان : بنو زائد ، وبنو وهدان ، وبنو عُلقة ، وهو العُلقي " () ويوجد في سراة بني سعد الآن حول هذه المواضع وبقربها قبيلة ( بنو زائد ) وقبيلة ( العلقي ) وهم متجاورون وتحدهم (بقرانمنالغرب ، مما يقوي القول بأنهم ممن بقي من عدوان في المنطقة ، وقد يكون وادي علَق ) وهو واد صغير يدفع في أعالي وادي الليث ، جنوب غرب بقران ، قد يكون منسوباً إلى هذه القبيلة .
          أما ( رقبة ) الواردة في الأبيات فالغالب أنها ( رَقْيَة ) بالياء وليس الباء ،وهو واد كبير ينحدر من جبل جودى ، ويصب في أعالي وادي الليث إلى الغرب من علق . ووادي رقية لم أجد له ذكراً في كتب البلدان ، ووجدت له إشارة مفردةعند الهجري في أبيات رواها ، منها :

نظرت إلى برقٍ يمان فشاقَني  ...  وخلّيت دمع العين يجري بديرها
تهَلّل في أشراف رقْيَةَ وبلُه   ...    فَجَلّلَ جُودى ذو غزال يميرها
قال الهجري : رقْيَةُ  " من أرضِ فَهم من دون الليث " () . وفهم وعدوان أبناء عم ويشتركون في المواضع كما تقدم ، واحتمال اشتراكهم في ( رقية ) وارد ، وذكر البكري أن هذيلاً تتصل بفهم وعدوان في الجبال ونصه : " وجيران هذيل فى جبالهم فهم وعدوان ابنا عمرو بن قيس عيلان " () . فهذا يفيد أن جبال هذيل غرب الطائف وجنوبه الغربي تتصل بجبال فهم وعدوان من هذه الجهة .
رابعاً : قال ياقوت عند رسم ( بسل ) : " واد من أودية الطائف أعلاه لفهم وأسفله لنصر بن معاوية " () وقال الأصفهاني : " بسل أعلاه لفهم وأسفله لنصر " () فهذان النصان يفيدان أن أعلى بسل ، أي : أعاليه من جهة السراة ، هو لقبيلةفهم ، وهم أبناء عمومة عدوان وشركاؤهم في سراتهم ، ومعلوم أن وادي بسل يكاد يحتلب أغلب مياه سراة بني سعد الآن . مما يعني أن هذه الديار ( أعاليبسل ) لم تكن لبني سعد بن بكر قديماً ، بل هي لفهم . 
           والقسم الأكبر من منازل فهم في تهامة ، فلهم من الأودية المجاورة للسراة والتي تسكنها قبائل من بني سعد الآن : وادي ( رقيَة ) كما تقدم ، ومثله يقال أيضاً في شأن جبل (جودى) الشهير ، فهما متجاوران ، ومثله وادي ( ذو حماط ) القريب منهما () فعند السكري : " خرجت غازية من بني قريم يريدون فهماً ، حتى أصبحوا على ماء يقال له ذو حماط .. " () وأيضاً وادي ( عورش ) وهو يسيل في أعالي وادي الليث بين وادي (علق) ووادي ( رقية ) السابق ذكرهما ، وقد ورد ذكره في شعر عمرو ذي الكلب الهذلي ، يهدد فهماً ، ويقول () :

فلست لحاصنٍ إن لم تروني   ...     ببطن ضريحة ذات النجال
   وأمي قينةٌ إن لم تروني       ...     بعورش وسط عرعرها الطوال
         ووادي عورش هو أحد فرعي أعالي وادي الليث ، وهو يقدم من الغرب ، والفرع الآخر هو وادي ( الجوف ) القادم من الشرق ، وهو من أودية بني سعد الغورية الآن ، وقد كان قديماً من أودية فهم ، فقد ذكر السكري خبر الشاعر عمرو ذي الكلب ، وفيه : " أنه خرج هو وإنسان معه ، حتى أتوا على صيره ، دار من فهم بالجوف .. " () . 
                فهذه المواضع جميعها ، التي تسكنها بنو سعد الآن ( أعلى بسل ، الجوف ، عورش ، رقيَة ، جودى ، ذو حماط ) لم تكن من ديار بني سعد بن بكر قديماً ، بل من ديار فهم ، وقد تشاركهم فيها عدوان .
            أما الأودية الكبيرة بعد بسل نحو : ( مظللة ، وشقصان ، وقيا ) فأسافلها بلا شك هي من ديار هوازن ، كما أشار لهذا الهمداني () ، أما أعاليها في السراة فإنها ـ حسب ترتيب السروات المتقدم ـ من ديار فهم أو شبابة () .
خامساً : تأتي بعد سراة فهم سراة شبابة ، ولم أجد نصاً يذكر موضعاً  بعينه لبني شبابة هؤلاء () ،عدا موضع ( الحِداب ) الذي أشار إليه الأصمعي في خبر سليمان بن عبد الملك ، حين أرسل لوالي الطائف يطلب منه عسلاً قائلاً  : " انظر لي عسلاً من عسل الندغ والسِّحاء ، أخضر في السقاء ، أبيض في الإناء ، من حِداب بني شبابة " () .
               وقد ذكرت عدة أقوال في تحديد شبابة هؤلاء ، منها :
1/ ذكر أبو حنيفة الدينوري أنهم شبابة من فهم بن مالك من الأزد ، وليسوا من فهم عدوان حيث قال عن الحداب : " من جبال السراة ينزلها بنو شبابة من فهم بن مالك من الأزد ، وليسوا من فهم عدوان " ()
            فإن كان يقصد شبابة بن مالك بن فهم ، فهي بطن من قبيلة دوس ، وسراة قبيلة دوس تبعد كثيراً عن سراة شبابة التي نقصدها هنا ، وبين سراة دوس وسراة شبابة هذه ، يوجد سراة بني على وسراة بجيلة . ()  إلا أن قوله عن الحداب : " وراء شيحاط ، وشيحاط من الطائف " () يدل على قرب هذه السراة من الطائف ، وشيحاط  بعد الطائف على وادي جفن () ، وسراة دوس بعيدة جداً من هذا التحديد ، فإما أن يقال إن شبابة في هذه السراة ليسوا من مالك بن فهم من الأزد كما يذكر أبو حنيفة ، أو يقال إن ديار بني شبابة بن مالك بن فهم الأزدية منفصلة عن ديار بني عمومتهم في دوس ، وأن سراتهم تقع هنا بعد سراة فهم وعدوان () . 
2/ ونقل ابن قتيبة في غريب الحديث ، عن أبي اليقظان أن شبابة المشهورة بالعسل هي شبابة من كنانة  فقال : " قال أبو اليقظان : هم من كنانة من بني مالك بن كنانة ، ينزلون اليمن ينسب إليهم العسل ، فيقال : عسل شبابي " () ، وكذلك فعل البلاذري في أنساب الأشراف ، والأزهري في تهذيب اللغة () . فجعلهم من كنانة .
             وكنانة قبيلة عريضة تسكن تهامة والساحل ، لكن البحث هنا عن شبابة القبيلة التي تسكن السراة ، ولا أعرف أن لكنانة دياراً في السراة . وقد ذكر الهمداني أن ديار بني سعد من كنانة إلى الجنوب من الليث ، فقال عند ذكره لسراة بجيلة : " فنجدها بنو المعترف وأصلهم من تميم ، وقال لي بعضهم : إنهم من عكل ، وغورها بنو سعد من كنانة ، ثم سراة بني شبابة وعدوان ، وغورهم الليث " () . وقال البكري عن السراة : " فصار ما خلف هذا الجبل فى غربيّه إلى أسياف البحر، من  بلاد الاشعريّين وعكّ وكنانة ، إلى ذات عرق والجحفة وما والاها وصاقبها وغار من أرضها ، الغور غور تهامة ، وتهامة تجمع ذلك كلّه " () ، فجعل كنانة في تهامة والغور مع الأشعريين وعك .
3/ ومعلوم أن من قبائل شبابة قبيلة منسوبة إلى فهم ، وفي خبر الشنفرى الشاعر الصعلوك عند الأصفهاني قال : " الشنفرى كان من الأواس بن الحجر بن الهنو بن الأزد بن الغوث ، أسرته بنو شبابة بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان " () ، وقد تكون هذه السراة منسوبة إليهم ؛ لقربهم الشديد منها ، فهي مجاورة لديارهم التي تحددت سابقاً ، وأيضاً هم مشهورون بالعسل ، بدليل ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : " أن شبابة بطن من فهم كانوا يؤدون الى رسول الله صلى الله عليه وسلم على نحل كان لهم العُشُر ، من كل عَشْر قرب قربة ، وكان يحمي واديين لهم ، فلما كان عمر رضي الله عنه استعمل على ما هناك سفيان بن عبد الله الثقفي ، فأبوا أن يؤدوا اليه شيئاً وقالوا : إنما كنا نؤديه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فكتب سفيان الى عمر رضي الله عنه بذلك ، فكتب اليه عمر رضي الله عنه : إنما النحل ذباب غيث ، يسوقه الله عز وجل رزقاً إلى من يشاء من عباده ، فإن أدوا إليك ما كانوا يؤدون إلى رسول الله فاحم لهم أوديتهم ، وإلا فخل بينه وبين الناس ، فأدوا إليه ما كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحمى لهم أوديتهم " () .  فالنص يشير إلى أن شبابة بن فهم مشهورون بالعسل أيضاً لذا قد تكون هذه السراة منسوبة لهم . 
         وعليه فشبابة هنا قد يكونوا من الأزد ، وقد يكونوا من فهم ، بل قد يكون المقصود الاثنين معاً ، وأنهما قبيلتان متجاورتان مشتهرتان بالعسل ، يدل على هذا أمران : 
1 /  ما ورد في شعر أبي الجيّاش الحجْرِي ، حيث ذكر( الشبابات ) بلفظ الجمع ، وذكرهما معاً ، مما يدل على وجود أكثر من شبابة ، في مواضع متجاورة ، يقول () :
فالذرى من سراة غامد فالنمــــــــــــــــــــــــــر فأجبال دوسها ضحيـــاء
فقرى الدارتين أرض علـــــي                 سهلها والجبال منها الماء
فالشـــــــبابات فالمعادن فالطائـــــــــــــــــــــــف فالويل أرضهن سمــاء

              فالشاعر هنا ذكر السروات جنوب الطائف مرتبة متعاقبة ، وهي حسب ترتيبه من الشمال للجنوب : ( الطائف ، المعادن ، الشبابات ، أرض علي ، دوس ، النمر ، غامد) وهو قد أورد موضع ( الشبابات )  بلفظ الجمع ، وهو يدل على وجود أكثر من شبابة في هذا الموضع ، والمعروف هنا اثنتان وهما ( شبابة فهم ، وشبابة الأزد ) وجمْعُ الشاعر لهما معاً يدل على اتحاد موضعهما أو تقاربه. وهذا الموضع ـ حسب ترتيبه ـ يأتي بعد (المعادن) ودون (أرض علي) ، فهذه مواضع شبابة فهم ، وكذا شبابة الأزد () .
2 /  أن لفظ ( حِداب ) الوارد في النص المتقدم  جمع حدب ، وهو يدل على وجود أكثر من حدب ، ويوجد في ديار فهم التي سبق تحديدها في أعالي بسل ، موضع اسمه ( الحدباء ) () كما يوجد موضع بعد ديار فهم مباشرة اسمه ( الحدب ) وهو الآن في ديار بني الحارث ، ولعل النص يشمل الموضعين معاً ؛ لأنه ورد بلفظ الجمع ( حِداب ) ؛ ولأن كلاً منهما مشهور بالعسل حتى الآن .
           وكما اختلف في تحديد نسب قبيلة شبابة هذه ، اختلف أيضاً في تحديد موضع سراة شبابة ، بما فيها موضع (الحداب) ، فجعلها ابن قتيبة وغيره من الطائف ، يقول ابن قتيبة : " وبنو شبابة قوم بالطائف " () ، ومثله قول الزمخشري من سجعاته في الأساس : " وتقول : كان عصر شبابي ، أحلى من العسل الشبابي ؛ منسوب إلى بني شبابة من أهل الطائف " () ، والمقصود أنها من نواحي الطائف وقريبة منه ، وليست من الطائف المدينة . وأبعد من هذا قول السمعاني عن سراة شبابة بأنها : من نواحي مكة () .
            أما أبو حنيفة فقد حددها بأنها : " وراء شيحاط ، وشيحاط من الطائف " () . و (شيحاط) موضع معروف الآن جنوب الطائف ، أسفل وادي جفن () وهو يبعد قليلاً عن ديار شبابة ، ولا يفيد كثيراً في تحديد الموضع ، والأولى أن يقال إن ديار شبابة تشمل جميع (الحداب) التي سبق ذكرها : حداب شبابة فهم ( الحدباء ) وحداب شبابة الأزد ( الحدب ) .
              وخلاصة القول هي أن هذه السراة التي فيها هذه الحداب لقبيلة شبابة ، وليست لقبيلة بني سعد بن بكر ، سواء أقلنا هم شبابة فهم ، أم شبابة الأزد ، أم شبابة كنانة ، فهذا لا يغير من الدلالة المقصودة شيئاً .
سادساً : وتأتي بعد سراة شبابة ( سراة بني علي ) ولم أعثر على نص يذكر من هم بنو علي ؟ أو يحدد موضعاً لهم بعينه ، سوى ما ورد في أبيات أبي الجيّاش الحجْري الأزدي السابقة ، حيث نسب إليهم من المواضع ( قرى الدارتين ) والتي لم أجد أيضاً من يحددها ويبين موقعها .
             وقد يظن أنها من أرض بجيلة ، حيث نجد من فخوذ قبيلة بني مالك جنوب الطائف الأن (وهم من قبيلة بجيلة ) فخذ بني علي ، ويتألف هذا الفخذ من عدة قبائل () ، وأيضاً نجد من قرى بني مالك قرية ( الدارين ) في وادي عردة الشهير ، لكن الروايات السابقة غايرت بين سراة بجيلة وسراة بني علي ، وهذا يدل على تغاير القبيلتين ، وأن أرض علي غير أرض بجيلة . 
            وفي ترعة ثقيف توجد قرية قديمة اسمها قرية ( الدارين ) وفيها آثار وحصون وكتابات تدل على قدم هذه القرية ، ووصفها السالمي بقوله : " من كبريات قرى ثقيف ، يتبعها قرى صغيرة حولها ... وهي تعد حاضرة بلاد ثقيف " () وهذه القرية أقرب إلى أن تكون هي قرية ( الدارتين ) المذكورة في سراة بني علي ؛ لوقوعها بين سراة بجيلة وسراة شبابة ، وهو الموقع الذي ذكره البلدانيون لسراة بني علي ولقرى الدارتين ، فالغالب أن تكون هي أو قرية أخرى قريبة منها ،  وسواء أقلنا إن قرية الدارتين هي هذه أم أخرى قريبة منها ، فهي بعيدة من ديار بني سعد الآن .
سابعاً : نستطيع أن نرتب السروات جنوب الطائف ؛ بناء على هذه النصوص المتقدمة مع إضافة سراة هذيل ، وسراة ثقيف ، على النحو التالي : ( سراة هذيل ) في جبالهم التي ما زالوا فيها حتى الآن غرب الطائف وجنوبه الغربي، ثم ( سراة ثقيف ) في الطائف وما جاورها ، ثم ( سراة عدوان ) في المعادن وبقران والسر وما جاورها ، ثم ( سراة فهم ) في أعالي وادي بسل وما حوله ، ثم ( سراة بني شبابة ) وهي بعد سراة فهم ، ثم سراة ( بني علي ) .
ثامناً : ذكر البلادي أن سراة قبيلة بني سعد في الوقت الحاضر ، هي ما كان يعرف قديماً بسراة شبابة أو تجاورها () . 
           قلت : هم في سراة قبيلتي عدوان وفهم على سبيل التأكيد ، فالمواضع التي ذكرت سابقاً جميعها في ديار فهم وعدوان : ( المعدن ، بقران ، السر ، صعر ، أعلى بسل ، الفرع ، الجوف ، عورش ، رقية ذو حماط .. ) أما سراة بني شبابة ، فإن كان المقصود بها شبابة فهم فنعم ، أما شبابة الأزد فالظاهر أن ديارها تمتد إلى أبعد من ديار بني سعد الآن ، وأنها تشمل سراة قبيلة بني الحارث الآن ، بما فيها ميسان أو أعلاه ، أو موضع ( الحدب ) من سراة بني الحارث على أقل تقدير () .
تاسعاً : تم التركيز في هذا الفصل على دراسة ديار قبيلة بني سعد الآن التي فيها سراة بني سعد المنسوبة إليهم ، وما حولها من مواضع ، ولم تبحث مجموع ديار بني سعد الآن ، فإن ديارهم الآن أوسع من سراتهم ، وهي تمتد شرق السراة إلى كلاخ ، والسديرة ، وجلدان ، وأسفل لية ،  وأسفل الطائف ، وحول الطائف في وادي نخب ، والسيل الصغير ، وغيرها ، وغالب هذه الديار ـ ما عدا السراة ـ هي ديار بني نصر بن معاوية من هوازن ، كما سيأتي ذكره ، وبعض بني سعد الآن في السيل الكبير ، وهو من ديار بني سعد بن بكر كما سيأتي ؛ وإنما تم التركيز على سراة بني سعد الآن ؛ لأن الآثار المنسوبة لحليمة من بيوت ومسجد ، وكذا قبيلة الذويبات ، موجودة في ديار بني سعد في السراة .



 المطلب الثالث : ظهور بني سعد القبيلة المعروفة الآن في أرض السراة جنوب الطائف  :
           تقدم نقل النصوص التي تثبت أنه لا يوجد سراة لبني سعد بن بكر جنوب الطائف ، في زمن البعثة والقرون الأولى من الهجرة على أقل تقدير ، ونقل النصوص التي تثبت أن سراة بني سعد في الوقت الحاضر كانت لقبائل معروفة ومحددة ، وليس منها بنو سعد بن بكر ، فإن قيل : فماذا بشأن بني سعد الذين يسكنون السراة جنوب الطائف الآن ، وكيف وجدوا ، ومتى وصلوا هنا ؟ 
          قلت : بالرغم من أن جواب هذا السؤال ليس هدفاً لهذا البحث ـ كما تقدم ـ وبالرغم من عدم وجود نصوص صريحة حول هذه المسألة ، لكن لا بأس من ذكر بعض الاحتمالات الواردة ؛ والتي يمكن  ـ بموجب ذكرها ـ أن تتناسق جوانب البحث ، وتترتب أفكاره ونتائجه ، فمن ذلك ():
 أن يقال إن بني سعد جنوب الطائف الآن هم غير بني سعد بن بكر ، وليس هناك من نص يثبت هذا الاحتمال ، إلا أن بني سعد كثيرون في العرب ، حتى قيل في المثل : في كل واد بنو سعد () . وقريب من هذا الموضع كان يوجد أكثر من قبيلة فيها بنو سعد ، فهناك  بنو سعد من فهم ، وبنو سعد من عدوان () وبنو سعد من كنانة ، وبنو سعد من بجيلة . وهذا الاحتمال وجد من قال به ، إلا أن كثيراً من أفراد القبيلة الآن ينكره بشدة ، وهم ـ بلا شك ـ أدرى بأنسابهم .

 ويؤيده أن بني سعد الآن هم في سراة فهم وعدوان سابقاً ، وقد ظهر الضعف على فهم وعدوان منذ زمن متقدم ، بسبب الحروب بينهم ، والتي ذكرها شعراؤهم ، كما في أبيات ذي الأصبع المتقدمة () :
عذير الحي من عدوا        ن كانوا حية الأرضِ
بغى بعضٌ على بعضٍ         فلم يبقوا على بعضِ
ومثل قول ذي الأصبع أيضاً () :
فلَقبلُ ما رام الإله بكيدهِ   ...    إرماً وهذا الحي من عدوانِ
بعد الحكومةِ والفضيلةِ والنُهى  ...  طاف الزمان عليهمُ بأوانِ
وتفرقوا وتقطعت أشلاؤهم    ...   وتبددوا فِرقاً بكل مكانِ
 وكقول أمامة بنت ذي الأصبع من القصيدة التي مطلعها () :
كم من فتى كانت له ميعةٌ     ...     أبلج مثل القمر الزاهرِ
ومنها :
لقد لقِيت فهمٌ وعدوانها     ...      قتلاً وهلْكاً آخر الغابرِ
يقول البكري : " ... ووقعت بين عدوان حرب ، فتفرّقت جماعتهم ، وتشتّت أمرهم ، فطمعت فيهم بنو عامر، وأخرجتهم من الطائف ، ونفوهم عنها ... " () . وفي كتاب أنساب الأشراف : " وكانت عدوان كثيرة السادة فبغى بعضهم فتحاربوا وتفرقوا " () .
           ومن ثمّ ضعفت القبيلتان ، فتفرقت عدوان ، وانحاز باقيهم إلى شرق السراة ، إلى مواضعهم الحالية في شمال شرق الطائف ، في أسافل أودية لية والعرج وشرب ، ونقل ياقوت عن الزمخشري أن ركبة ـ شمال الطائف ـ كانت لعدوان في زمنه ، فقال : " وقال الزمخشري: هي مفازة على يومين من مكة ، يسكنها اليوم عدوان " () ، وهاجر بعضهم في قرون متأخرة مع هجرة بني هلال وسليم ، وأشار لهذا ابن خلدون بقوله عن قبيلة عدوان : " وبإفريقية لهذا العهد منهم أحياء بادية بالقفر ، يظعنون مع بني سليم تارة ، ومع رياح بن هلال بن عامر أخرى " () .
          أما فهم فقد انحاز أغلبها إلى تهامة ، وحلّت هناك محل قبائل من هذيل ، وقد بدأ هذا منذ زمن متقدم () ، ومن ثَمّ يمكن القول إن هذا التفرق والضعف أوجد الفرصة لبقية القبائل أن تتقدم إلى ديارهم ، بما فيها بنو سعد بن بكر ، التي تقدمت إلى هذه المواضع من ديارهم .
            وقد يكون بعض بني فهم وبني عدوان بقوا في ديارهم إلى زمن متأخر ، وقد تكون بعض قبائل بني سعد الآن هم من بقايا فهم وعدوان ، تحالفوا مع قبائل بني سعد ، وهذا يوجد بكثرة عند العرب ، وتقدمت الإشارة إلى نص أبي علي الهجري عن قبيلتي ( بني زائد وبني علقه ) وقوله إنهما من قبيلة عدوان () . 
ثالثاً : ليس هناك من تأريخ يحدد ظهور بني سعد ـ المعروفين الآن ـ في جنوب الطائف ، إلا أننا إن قلنا إن بني سعد هؤلاء هم بنو سعد بن بكر وليسوا غيرهم ، فاليقين أنهم لم يكونوا هنا في القرون الثلاثة الأولى من الهجرة ، فالهمداني المتوفى سنة (334هـ ) ذكر أن قبائل فهم وعدوان كانوا في سراتهم في زمانه ، وهو يذكر ما يشاهده ؛ لأنه كان يتنقل بنفسه للحج من اليمن إلى مكة ، ويصف الطريق ، ويذكر البلدان والقبائل . والغالب أنهم لم يصلوا إلى هنا إلا في القرون المتأخرة .
              وقد أورد الفاسي في ترجمتة لشيخ الحرم أبي ذر الهروي نصاً مشكلاً ، جاء فيه قوله : " ثم سكن أبو ذر الهروي عند العرب ، وتزوج عندهم بالسراة ( سراة بني سياه )  وهي سراة ( بني سعد ) بجهة بجيلة ( بمجرى ) وما حولها من بلاد ( بني سعد ) " () .
             وقد ظن البعض أن بني سعد هنا هم بنو سعد بن بكر ، وأنهم وصلوا إلى هنا في هذا التاريخ ( القرن الخامس الهجري )  ولا أرى ذلك لأمور :
1 / أن قوله (بني سياه ) هو خطأ من الناسخ والصواب هو بنو شبابة ، يؤيدهذا أن الفاسي نفسه ترجم لأبي جميع ابن أبي ذر هذا ، فقال : " ولد سنة خمس عشرة وأربعمائة بسراة بني شبابة ؛ لأن أباه كان هناك وأقام مدة " () ، وقال الذهبي : " تزوج أبو ذر في العرب في سروات بني شبابة ، وسكن هناك مدة " () .
             وقال السمعاني في ترجمة ابن أبي ذر : " أبو جميع عيسى بن الحافظ أبي ذر عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله الهروي الشبابي ، حدث بهذا الموضع عن أبيه أبي ذر الحافظ " ()ويقصد بالموضع سراة بني شبابة ، ونسب أبا جميع إلى شبابة القبيلة بحكم مولده فيهم ، أو إلى شبابة المكان والسراة المعروفة .  وهو ما أشار إليه ياقوت الحموي في معجمه حيث قال : " سراة بني شبابة بفتح أوله وبعد الألف باء موحدة أخرى ، من نواحي مكة ، ينسب إليها  أبو جميع عيسى بن الحافظ أبي ذر عبد الله بن أحمد الهروي الشبابي ، حدّث بهذا الموضع عن أبيه أبي ذر " ()
2/ وإذا كان أبو ذر قد سكن سراة بني شبابة ، فكيف تكون سراة بني شبابة هي سراة بني سعد ؟ هذا غير واضح إلا أن يقال إنه يقصد بني شبابة ـ  كما في أول النص ـ ولا يقصد بني سعد ، وهذا هو الراجح الغالب ، أو يقال إن بني سعد المذكورين هنا قد يكونوا من بطون بني شبابة ، أو يقال إن الفاسي يريد ذكر السراة في وقته ، ويقول إن سراة بني شبابة التي كان يسكنها أبو ذر في القرن الخامس الهجري هي سراة بني سعد الآن في عصر الفاسي ، أي في القرن الثامن أو التاسع .
3/ ولو قلنا إن كلمة ( بني سعد ) صحيحة ومقصودة ، فإن النص لم يحدد من هم بنو سعد هؤلاء ؟  فكيف نستطيع أن نجزم أنهم هم بنو سعد بن بكر وليسوا غيرهم !! وخصوصاً إذا علمنا أن الهروي كان في سراة بني شبابة ، وتقدم أنه يوجد هناك شبابة الأزد وشبابة فهم ، وأن من بطون فهم أيضاً بنو سعد بن فهم ، فالقول إنه كان في سراة شبابة عند بني سعد من شبابة فهم ، أولى وأقرب من القول بأنه كان في سراة شبابة عند بني سعد بن بكر !!
         والأولى من هذا كله أن يقال إن النص مصحّف ، وأن الصحيح ( سراة بني شبابة ) ، بدليل التصحيف الحاصل في أوله ( بني سياه ) حيث تبين أنه ( بني شبابة ) وبدليل هذا الإشكال في بني سعد ، وبدليل قوله بعدئذ ( مجرى ) وهي كلمة غير معروفة ولم يذكرها أحد ، والغالب أنها هي الأخرى كلمة مصحفة  () .
رابعاً : وفي إفادة الأنام في حوادث سنة ( 1047 هـ ) خبر غزو شريف مكة لبني سعد وغامد () ، دون تحديد من هم بنو سعد هؤلاء ، لكن أورد العصامي في حوادث عام (1080 هـ ) خبر : " وفي هذا الشهر توجه مولانا السيد محمد بن زيد إلى قبيلة بني سعد ، في جمع يسير ، وهم في منعة وشاهق خطير " () ، فأشار إلى وجودهم في جبال عالية ، ثم أورد في حوادث عام ( 1081 هـ ) قصة رجل اسمه عمير قتل في الطائف ، قال : " ثم إن أولاد عمير المذكور صاحوا في عشيرتهم وذويهم ، واستثاروهم على قتلة أبيهم ، فأتاهم بنو سعد وعتيبة وجمع من العربان .... فأخذ القوم ينهزمون إلى أن وصلوا عبّاسة ... " () .
         فهذه النصوص ونحوها ورد فيها اسم قبيلة بني سعد ، ولاشك أنها قبيلة بني سعد المعروفة الآن جنوب الطائف ؛ لأنه ورد في بعضها موضعاً من ديارهم الآن ( عبّاسة ) () ، ووصفوا بأنهم في شاهق خطير ، مما يؤكد وجود بني سعد هؤلاء هنا في القرن الحادي عشر من الهجرة ، لكن لاشك أنهم وجدوا هنا قبل هذا التاريخ .
              وقد أورد النجم ابن فهد في تاريخه نصاً في حوادث عام (848هـ ) وفيه أن السيد بركات بن حسن بن عجلان ، سار بجيش نحو المشرق ، قال : " فوجد بمكان يقال له البوباة عرباً من بني سعد ، يقال لهم يمن ، فأخذ لهمخمسين بعيراً وعدة من الغنم " () . وهذا يدل على أن قبيلة تُدعى بنو سعد كانتموجودة في البوباة ( البهيته ) وذلك في القرن التاسع الهجري ، والغالب انهمبنو سعد بن بكر ؛ لأن البوباة ديارهم منذ الجاهلية ـ كما سيأتي ـ  بل مازال بقيةمنهم  فيها حتى الآن .
            والخلاصة أنني لم أعثر على دليل صحيح صريح في تأريخ وصول بنيسعد إلى جنوب الطائف ، إلا أن المؤكد أنهم لم يكونوا هنا في القرون الأولى منالهجرة ، والغالب أنهم وصلوا هنا  في القرون المتأخرة ، لكن لا يمكن الجزم فيهاعلى سبيل التحديد ؛ لعدم وجود النصوص .
          وأخيراً فقد تلخص من هذا الفصل الأول بمبحثيه الأول والثاني ، أنه لم تكن لبني سعد بن بكر سراة أو أي موضع في السراة الواقعة جنوب الطائف ، وذلك في القرون الثلاثة الأولى على أقل تقدير ، وعليه يمكن أن يقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينشأ في هذه الديار ، وأن ما هو شائع لدى العامة من أن الرسول صلى الله عليه وسلم نشأ هنا ،مجرد شبهة لا يسندها دليل مقبول ، وأن هذه الآثار القائمة من مسجد ومنازلونحوه لا علاقة لها بحليمة السعدية .
     



عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن سهل الْعَبدَرِي القرشي من أهل ميورقة

 عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن سهل الْعَبدَرِي من أهل ميورقة وَصَاحب الصَّلاة وَالْخطْبَة بجامعها يكنى أَبَا مُحَمَّد وَيعرف بالمنقوري سَمِع...